المسائل التي يحكم فيها القضاة على خلاف الشريعة
يجتهد القضاةُ في المناطق المحررة في تطبيق الأحكام الشّرعية على الوقائع والقضايا المنظورة لديهم، ولكن قد يخفى الحكم الشرعي على بعض القضاة، أو يَلتبس عليهم بالحكم أو الإجراء المأخوذ مِن القوانين الوضعية فيقع الخلافُ في بعض تطبيقات القضاة، والتساؤل عن مدى موافقتها للشريعة أو مخالفتِها، ومِن منطلق الحاجة إلى معالجة هذه القضايا أطلق المجلس العلمي بمعهد إعدادِ القضاة مشروعاً يُعنى بتتبّع هذه المسائل ودراستها دراسةً مقارنةً بين الفقه الإسلامي والقانونِ الوضعي؛ لمعرفة مدى التوافق والاختلاف بينهما فيها.
وقد عُمل على جمع هذه المسائل مِن خلال الواقع العملي وتطبيقات القضاة، والمجال مفتوح لإضافة المسائل التي يهدُف المشروع إلى خدمتها، ويمكن إرسالها للمجلة أو المجلس العلمي في معهد إعداد القضاة على عناوين التواصل المذكورة في المجلة.
وقام عددٌ مِن أعضاء المجلس العلمي والباحثين فيه بتقديم النّسخة الأولى مِن دراسة هذه المسائل، وهم الباحثون: د. بسام صهيوني و د. أنس عيروط و د. محمد بن حسين مفتاح والشيخ عبد الرحمن الضحيك، ثمّ روجعت وعدّلت علمياً.
وتتم دراسة مسائل هذا المشروع وَفق المنهج الآتي:
1- وضع عنوان مختصر للمسألة.
2- توضيح صورة المسألة، وبيان مواضع الإشكال أو ظَنِّ التعارضِ بين الشريعة والقانون.
3- بيان رأي القانون السّوري والقانون العربي الموحّد إن أمكن في المسألة.
4- بيان الرأي الشّرعي وَفق ما يلي:
•إذا كانت من مسائل الإجماع والاتفاق يُنقل ما يدل على ذلك، وتذكر أدلة المسألة على سبيل الاختصار.
•وإذا كانت من مسائل الخلاف يتم ذكر مذاهب العلماء وأقوالهم اختصاراً، وتُبيَّن درجة الخلاف مِن حيث الاعتبارُ وعدمُه.
5- ذكر نتيجة البحث: هل ما يحكم به القضاة في المسألة مخالف للشريعة أو لا؟
ويسرنا في هذا العدد مِن «مجلة قضاة الشام» أن نقدمَ للقراء الكرام نموذجين مِن تلك المسائل المبحوثة في المشروع، وهما مسألة: (الرجوع عن الإقرار) ومسألة: (نوع التفريق لعلة الغياب).
والمقرّر أن تُنشر مسائل المشروع على شكل مجموعات، تضمّ كلُّ مجموعةٍ عدداً من المسائل يتم نشرها في «مجلة البحوث القضائية» التي تصدر مِن المجلس العلمي لمعهد إعداد القضاة بشكل موازٍ لصدور «مجلة قضاة الشام».
ونسأل الله سبحانه أن ينفع بهذا المشروع، وغيرِه مِن الأعمال العلمية، والمشاركات المنشورة في هذا العدد من «مجلة قضاة الشام».
د. عمار بن إبراهيم العيسى
رئيس المجلس العلمي لمعهد إعداد القضاة
المسألة الأولى : الرجوع عن الإقرار في الحدود
الإقرارُ أقوى وسيلة مِن وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، ويطلق عليه سيد الأدلة، وهو حجةٌ كاملة في إثبات الشيء، ولا يَحتاج إلى ما يثبته ويدعمه في إظهار الحق، ومتى صدر الإقرار مستوفياً شروطَه الشرعية فقد ترتب عليه إلزامُ المقِرِّ بما أقرّ به، وإلزامُ القاضي الحكمَ بموجِبه.
تعريف الإقرار:
الإقرار في الفقه هو: «هو الإخبار عن ثبوت حقٍّ للغير على نفس المقِرّ» .
عرَّف قانون البيناتِ السوري في المادة (93) الإقرارَ بأنه: « إخبارُ الخصمِ أمام المحكمةِ بحقٍّ عليه لآخر».
موضع التعارض:
في القانون: لا يعتد بالرجوع .
أمَّا في الشرع: فيُدرأ الحدُّ بالرجوع عن الإقرار.
صورة المسألة : هل يُقبل الرجوع عن الإقرار في الأحكام الجزائية في الحقوق كلها بعد استكمالِ القضية عناصرَ الحكم المعتبرة، أو أنه بمجرد هذا الاستكمال تصبح القضية ناجزةً لا يجوز الرجوع فيها؟
وسببُ الإشكالِ هنا أنّ القوانينَ الوضعيةَ لا تفرِّق بين حقِّ اللهِ وحقِّ العبد.
وأمَّا الأحكام الشرعية فتفرِّق بينهما على النَّحو الآتي:
حقُّ الله: هو كلُّ ما ليس للعبد إسقاطُه كحدِّ الزنا والسرقة ونحوهِما.
وحقُّ العبد: هو كلُّ ما للعبد إسقاطُه كالقِصاص والدِّيَة.
وما اجتمع فيه حقُّ اللهِ وحقُّ العبد، كحدِّ القذف والتعزير.
التراجع عن الإقرار في القانون الوضعي:
يُعدّ الإقرار حجةً قاطعةً، وقاصرةً على المقِرّ، أي يُعدّ حجةً كاملة إذا صدر مستوفياً لشروطه القانونية، فلا يحتاج إلى ما يؤيده أو يدعمه في الكشف عن الحقِّ أو الواقعة المدَّعى بها، فالمقَرُّ به يصبح ثابتاً، وهذا الثّبوت يلزم كلاً مِن المقِرّ والقاضي.
نصّت المادة 99 مِن قانون البيّنات السوري على ما يلي:
«1- يُلزم المرء بإقراره إلا إذا كُذّب بحكمٍ.
2- ولا يصحّ الرجوعُ عن الإقرار إلا لخطأ في الواقع، على أن يُثبتَ المقرّ ذلك».
والمقصود بالفِقْرة الأولى أنَّ حكمَ القضاء بتكذيب الإقرار يُعفي المقِرّ ممّا اعترف به.
أمّا الفِقْرة الثانية فأجازت للمقرّ الرجوعَ عن إقراره إذا اكتشف أنّه أخطأ في الوقائع المادية، لكن عندها يقع عبء إثبات هذا الخطأ على عاتق المقرّ في الدّعوى.
فالأصلُ عدمُ جواز الرجوع عن الإقرار؛ لأنَّ الإقرارَ إخبارٌ بحقيقة واقعة تمت قبل صدوره، لذلك لا يجوز للمقرّ أنْ يحجب هذه الحقيقة بعد أنْ ظهرت واضحةً، سواء كان ذلك قبل صدور الحكم المبني على الإقرار أم بعد صدوره.
الرجوع عن الإقرار في الشريعة:
إذا كان الرجوع عن الإقرار في حقٍّ مِن حقوق الله التي تَسقط بالشبهة كالزنا وشرب الخمر فإنّ جمهورَ الفقهاء مِن الحنفية والمشهور عند المالكية ومذهب كلٍّ مِن الشافعية والحنابلة على أنّ الرجوع يُعتبر، ويُسقط الحدَّ عنه، وفيما يلي بعضُ نصوص الفقهاء في ذلك:
عند الحنفية: جاء في «البحر الرائق»: «فإنْ رجع عن إقراره قبل الحدِّ أو في وسطه خُلّي سبيلُه؛ لأنّ الرجوع خبرٌ محتمِلٌ للصِّدق كالإقرار، وليس أحدٌ يكذِّبُه فيه، فتحقُّقُ الشُّبهةِ بالإقرار، بخلاف ما فيه حقُّ العبدِ، وهو القِصاص وحدُّ القذفِ؛ لوجود مَن يكذِّبه، ولا كذلك ما هو خالصُ حقِّ الشرع، أطلق في الرجوع فشمل الرجوع بالقول أو بالفعل كما إذا هرب …قال في الخانية: رجل أقر عند القاضي بالزنا أربعَ مرات، فأمر القاضي برجمه، فقال: واللهِ ما أقررتُ بشيء يُدرأ عنه الحدُّ اهـ…. وقد ظهر بما ذكرنا أنه يصح الرجوع عن الإقرار بالحدود الخالصة كحد الشرب، والسّرقة».
عند المالكية: جاء في «القوانين الفقهية»: «في الرجوع عن الإقرار: فإنْ أقرّ بحقٍّ لمخلوقٍ لم ينفع الرُّجوع، وإن أقرّ بحق الله تعالى كالزِّنا وشربِ الخمر، فإنْ رجع إلى شبهةٍ قُبل منه، وإن رجع إلى غير شبهةٍ ففيه قولان؛ قيل: يقبل منه وفاقاً لهما-أي الشّافعي وأبي حنيفة-، وقيل: لا يقبل منه وِفاقاً للحسن البصري».
عند الشافعية : جاء في «مغني المحتاج» : «لو قال: زنيتُ بفلانة فأنكرتْ، وقالت: كان تزوجني فمُقِرٌ بالزنا، وقاذفٌ لها، فيلزمه حدُّ الزنا وحدُّ القذف، فإنْ رجع سقط حدُّ الزنا وحدَه، وإن قال: زنيتُ بها مكرهةً لزمه حدُّ الزنا، لا القذف، ولزمه لها مهرٌ، فإن رجع عن إقراره سقط الحدُّ، لا المهر؛ لأنّه حق آدمي».
عند الحنابلة: قال في «المغني»: «ولا يَنزع عن إقراره حتى يُقطع. هذا قول أكثر الفقهاء. وقال ابن أبي ليلى، وداود: لا يُقبل رجوعُه؛ لأنه لو أقر لآدمي بقِصاص أو حقٍّ، لم يُقبلْ رجوعه عنه. ولنا قول النبيِّ للسارق: ( ما إخالك سرقتَ)، عرَّض له ليرجِع، ولأنه حدٌّ لله تعالى ثبت بالاعتراف، فقُبل رجوعه عنه، كحدّ الزنا، ولأنّ الحدود تُدرأ بالشُّبهات، ورجوعه عنه شبهة؛ لاحتمال أن يكون كذبَ على نفسه في اعترافه، ولأنه أحدُ حجَّتي القطع، فيَبطل بالرجوع عنه، كالشهادة، ولأنّ حُجةَ القطع زالت قبل استيفائه، فسقط، كما لو رجع الشهود.
وفارق حقَّ الآدمي، فإنه مبنيٌّ على الشح والضيق.
ولو رجع الشهود عن الشهادة بعد الحكم، لم يَبطُلْ برجوعهم، ولم يَمنع استيفاءَها.
إذا ثبت هذا، فإنه إذا رجع قبل القطع، سقط القطع، ولم يسقط غَرِمَ المسروقَ؛ لأنه حقُّ آدمي، ولو أقر مرة واحدة، لزمه غرامة المسروقِ دون القطع».
أمّا حدُّ القذف والقِصاص وحقوقِ الله تعالى التي لا تسقط بالشبهة، وحقوق العباد من الأموال وغيرها فلا يقبل الرجوع فيها.
كيف يكون الرجوع:
يكون الرجوع بالقول أو بالفعل بأن يهرب عند إقامة الحد عليه، وإنكارُ الإقرارِ رجوعٌ، فلو أقر عند القاضي بالزنا أربع مرات، فأمر القاضي برجمه فقال: ما أقررتُ بشيءٍ يُدرأ عنه الحد.
وقد يكون الرجوعُ صريحاً كأن يقول: رجعت عن إقراري، أو كذبتُ فيه، أو دلالة كأن يهرب عند إقامة الحد؛ إذ الهرب دليلُ الرجوع.
الخلاصة فيما يتعلق بالرجوع عن الإقرار:
أنّ الشريعة تجيز الرجوعَ في بعض الحقوق: فإذا كان الرجوع عن الإقرار مِن المقِرِّ في حقٍّ مِن حقوق الله التي تسقط بالشبهة كالزنا وشرب الخمر، فإن جمهور الفقهاء مِن المذاهب الأربعة على أنّ الرجوع يعتبر، ويسقط الحدّ عنه.
أما في القانون الوضعي: فلا يصحّ الرّجوع عن الإقرار مِن قبل المقرّ إلا لخطأ في الواقع، سواء كان ذلك قبل صدور الحكم المبني على الإقرار أم بعد صدوره.
والذي يظهر: أنَّ عدم اعتبار القوانين للرجوع في الإقرار راجعٌ إلى عدم اعترافها وتقريرها لعقوبة الحدود الشرعية، وهي التي يؤثّر الرجوع في إسقاطها مِن جهة قيام الشّبهة المانعة مِن تنفيذ الحدّ.
نتيجة البحث:
أنّ أخذَ القضاة بما يقتضيه القانون الوضعي مِن عدم صحّة الرّجوع عن الإقرار مطلقاً يخالف ما قرره جماهير الفقهاء مِن اعتبار الرجوع عن الإقرار مسقطاً للحدود التي تُدرأ بالشبهات كالزنا والسّرقة والخمر.
المسألة الثانية : نوع التفريق لعلة الغياب
موضع التعارض :
في القانون : يكون التفريق طلاقاً رجعياً .
أما في الشرع : يكون التفريق طلاقاً بائناً أو فسخاً .
صورة المسألة :
عند تضرّر الزوجة بغياب زوجها عنها، وحكم القاضي بالتفريق بينهما رفعاً للضرر هل يكون هذا التفريق مِن قبيل الطلاق الرجعي أو يكون طلاقاً بائناً لا يملك فيه الزوج الرجعة، أو يكون فسخاً ؟
مشروعية التفريق للغيبة :
أولاً – للفقهاء قولان في التفريق بين الزوجين إذا غاب الزوج عن زوجته، وتضررت من غيبته بعدم النفقة ، أو خشيت على نفسها الفتنة بترك الوطء:
قال الحنفية والشافعية: ليس للزوجة الحق في طلب التفريق بسبب غيبة الزوج عنها، وإن طالت غيبته، سواء كان بسبب عدم وجود النفقة، أو بسبب التضرر بترك الجماع؛ لعدم قيام الدليل الشرعي على حق التفريق، ولأنّ سبب التفريق لم يتحقق. فإن كان موضعُه معلوماً بعث الحاكم لحاكم بلده، فيُلزم بدفع النفقة.
قال في رد المحتار على الدر المختار: «ولا فسخَ بغَيبةِ مَن جُهل حالُه يساراً وإعساراً، بل لو شهدت بينةٌ أنه غاب معسراً فلا فسخَ» .
وجاء في المنهاج وشرحه مغني المحتاج: « (ومَن غاب) عن زوجته أو لم يغب عنها، بل فُقد في ليلٍ أو نهار، أو انكسرت به سفينة أو نحو ذلك (وانقطع خبره) بأن لم يُعرف حاله (ليس لزوجته نكاحٌ) لغيره (حتى يُتيقن موته) أو يثبت بما مرّ في الفرائض (أو) يُتيقن (طلاقُه) على الجديد؛ لما روي عن الشافعي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (وامرأةُ المفقود ابتليت فلتصبر ولا تنكح حتى يأتيها ) يعني موته . قال الشافعي : وبه نقول، ومثلُ ذلك لا يقال إلا عن توقيفٍ، ولأنَّ الأصلَ بقاءُ الحياة» .
ومذهب المالكية والحنابلة : أنّ الزوج إذا غاب ولم يترك نفقةً فللمرأة حقّ الفسخ، وكذلك إذا غاب غيبة طويلةً وتضرّرت بترك الوطء، وخشيت على نفسها الفتنة حتى لو ترك لها الزوج مالاً تنفق منه أثناء الغياب ؛ لأنّ الزوجة تتضرر من الغيبة ضرراً بالغاً، والضّرر يُدفع بقدر الإمكان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) ، ولأنّ عمر رضي الله عنه كتب في رجال غابوا عن نسائهم، فأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا .
قال الدّسوقي والصّاوي في حاشيتيهما: « اعلم أنّ الغائبَ يُطلَّق عليه للعسر بالنفقة، دخل بها أو لم يدخل، دُعي للدخول أم لا على المعتمد» .
وقال ابن قدامة : «فإنْ غاب أكثرَ مِن ذلك -يعني ستة أشهر- لغير عذر، فقال بعض أصحابنا: يراسله الحاكم فإن أبى أنْ يقدَم، فسخ نكاحه» .
لكن اختلف هؤلاء في نوع الغيبة ومدتها وفي التفريق حالاً، وفي نوع الفرقة:
ففي رأي المالكية: لا فرق في نوع الغيبة بين أن تكون بعذر كطلب العلم والتجارة أم بغير عذر. وجعلوا حدّ الغيبة الطويلة سنة فأكثر على المعتمد. ويفرق القاضي في الحال بمجرد طلب الزوجة إن كان مكان الزوج مجهولاً، وينذره إما بالحضور أو الطلاق أو إرسال النفقة، ويحدد له مدة بحسب ما يرى إن كان مكان الزوج معلوماً.
وفي رأي الحنابلة: تجوز الفرقة للغيبة إلا إذا كانت لعذر، وحدُّ الغيبة ستة أشهر فأكثر، عملاً بتوقيت عمر رضي الله عنه للناس في مغازيهم، ويفرق القاضي في الحال متى أثبتت الزوجة ما تدعيه. ولا تكون هذه الفرقة إلا بحكم القاضي، ولا يجوز له التفريق إلا بطلب المرأة؛ لأنه لحقها، فلم يجز مِن غير طلبها كالفسخ للعُنّة.
نوع الفرقة بسبب الغيبة:
أمّا المالكية: فقاعدتهم أنّ كلّ فرقةٍ يوقعها القاضي تكون طلاقاً بائناً إلا الفرقة بسبب الإيلاء، وعدم الإنفاق.
قال الصّاوي: «تقرّر أنّ كلَّ طلاق أوقعه الحاكم يكون بائناً إلا طلاق المولي والمعسر بالنفقة» .
وهذا يقتضي أن يكون التفريق بالغيبة طلاقاً بائناً، ولكن يحتمل أن يُقال في مذهبهم بكونه طلاقاً رجعياً ؛ لوجهين :
الأول : أنّ الطلاق على الغائب لعدم الإنفاق في معنى الطلاق على المعسر بالنّفقة، وقد صرحوا بأنّ حكم الغائب في الطلاق كحكم الحاضر.
قال ابن أبي زيد القيرواني : « ولا فرقَ بين الطلاق على الحاضر لعدم النفقة وبين الغائب» .
ولكن هذا الوجه يختص بالتفريق للغيبة التي سببها عدم النفقة دون التي سببها الضرر وخوف الفتنة.
جاء في التاج والإكليل : « كلُّ طلاقٍ يطلقه السلطان فهو طلقةٌ بائنةٌ كالمطلَّق عليه بالضّرر .. إلا مَن طُلق عليه بعدم النفقة أو بالإيلاء، فهما رجعيتان « .
الثاني : أنّ الدّسوقي أورد الفرقة للغيبة في ضمن الكلام عن الفرقة للإيلاء، وهي طلاقٌ رجعي، فاحتمل أن تكون مثلها طلاقاً رجعياً .
ولكن يُعارض هذا الفهم قاعدةُ المالكية السابقة التي ذكرها الصّاوي وغيره .
فيكون محصّل مذهب المالكية : أنّ التفريق للغيبة بسبب الضرر وخوف الفتنة طلاق بائن، وأمّا التفريق لعدم النفقة فيحتمل أن يكون طلاقاً رجعياً أو بائناً .
وقال الحنابلة: الفرقة تكون فسخاً لا طلاقاً، فلا تنقص عدد الطلقات؛ لأنها فرقة مِن جهة الزوجة، والفرقة مِن جهة الزوجة تكون عندهم فسخاً.
وقد تقدم قول ابن قدامة في المغني: «فإنْ غاب أكثرَ مِن ذلك لغير عذر، فقال بعض أصحابنا: يراسله الحاكم فإن أبى أنْ يقدَم، فسخ نكاحَه».
ثانياً – موقف القانون من التفريق للغيبة:
نص القانون السوري على التفريق للضرر بالغيبة في المادة (109) التالية:
« 1- إذا غاب الزوج بلا عذر مقبول، أو حكم بعقوبة السجن أكثر من ثلاث سنوات جاز لزوجته بعد سنة من الغياب أو السجن أن تطلب إلى القاضي التفريق ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه.
2- هذا التفريق طلاق رجعي، فإذا رجع الغائب، أو أطلق السجين، والمرأة في العدة، حق له مراجعتها».
ونصّ على التفريق بعدم الإنفاق للغيبة في المادة (110)، ونصّها :
«1- يجوز للزوجة طلب التفريق إذا امتنع الزوج عن الإنفاق على زوجته، ولم يكن له مال ظاهر، ولم يثبت عجزه عن النفقة .
2- إذا أثبت عجزه، أو كان غائباً أمهله القاضي مدة مناسبة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، فإن لم ينفق فرّق القاضي بينهما».
ونصّ على نوع هذه الفرقة في المادة (111) :
«تفريق القاضي لعدم الإنفاق يقع رجعياً، وللزوج أن يراجع زوجته ما دامت في العدة، بشرط أن يثبت يساره، ويستعدّ للإنفاق» .
فقد صرح القانون السوري أنّ التفريق للغيبة بالضرر، وبعدم الإنفاق طلاق رجعي .
أما القانون العربي الموحد فقد اعتبره طلاقاً بائناً؛ فقد جاء في المادة (112): «للزوجة طلب التطليق بسبب غياب زوجها، المعروف موطنه، أو محل إقامته، ولو كان له مال يمكن استيفاء النفقة منه، ولا يحكم لها بذلك إلا بعد إنذاره: إما بالإقامة مع زوجته، أو نقلها إليه، أو طلاقها، على أن يمهل لأجلٍ لا يقل عن أربعة أشهر، ولا يتجاوز سنة».
وجاء في المادة (117): «يعتبر التطليق بموجب المواد (…، 112،…) بائناً».
خلاصة البحث :
أنّ القانون العربي الموحد وافق مذهب المالكية في أن التفريق للضرر الحاصل بالغيبة طلاق بائن، بينما خالف القانونُ السوري مذهبَ الحنابلة في كونه فسخاً، ومذهب المالكية في كونه طلاقاً بائناً ، ولم يُذكر المذهبان الحنفي والشافعي هنا؛ لكونهما لا يريان الفسخ في هذه الحال.
ويمكن أن يُقال : إنّ المنحى الذي اتجه إليه القانون السوري لا يعتبر مخالفة صريحةً للشريعة، وذلك لأنّ المخالفة تكون بمصادمة صريحِ النصوص، وإجماع العلماء، وحيث إنّ المسألة خلافية واجتهادية ولا يوجد نص صريح في نوع الفرقة فالأمرُ محتمل .
ولعل القانون السوري نظر إلى دوام الرابطة الزوجية فجعل الطلاق رجعياً في حال رجع الزوج مِن غيبته خلال العدة أو خروجه من سجنه كان له الحق في مراجعة زوجته دون عقد جديد أو مهر جديد، وهذا يصبُّ في صالح الزوج.
نتيجة البحث:
أنّ أخذَ القضاة بما يقتضيه القانون العربي مِن اعتبار التفريق بين الزوجين طلاقاً بائناً، أو بما ذهب إليه القانون السوري مِن اعتبارها طلاقاً رجعياً لا يعتبر مصادمةً للشريعة، ولكن الذي نميل إليه ونوصي به القضاة أن يأخذوا باعتبار التفريق للضرر أو للإعسار بالنفقة فسخاً لا طلاقاً، أو باعتباره طلاقاً بائناً؛ لأنه المتوافق مع المذهبين اللذَين بُني عليهما القانون، وحسماً لمادة الضّرر، لئلا يقوم الزوج بمراجعة زوجته مِن غير أن يرفع عنها الضرر .
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.