العدد الثاني

افتتاحية العدد

بقلم رئيس التحرير: أ. إبراهيم الحسون

الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، وبعد …
فبعد انهيار الخلافة العثمانية وتحول بلاد المسلمين إلى دويلات تتحكم بها القوى العظمى في العالم ولدت نخبةٌ مثقفة تبحث عن طريق العودة للمجد الذي كانت عليه الأمة، حيث بدأت هذه النخبة بتشكيل رسالتها مِن حيث انتهى المجد الذي كانت عليه الأمة، لكن دون المرور بأسباب الانحطاط الذي قضى على ذلك المجد الغابر، فرفعت تلك النخبة شعارات ذات طابع ثوري حماسي يستطيع حشد الجماهير ليقوموا جميعاً بإعادة الخلافة، وفي ذهن هذه النخبة أن هذا التغيير والعودة إلى الخلافة سيكون إما بالانقلاب على الأنظمة الحاكمة أو من خلال الثورات التي ستعيد إقامة الخلافة المفقودة، لكن الذي غاب عن الذهن هو ذاك السؤال المحير والذي مفاده: لماذا سقطت الخلافة التي كانت قائمة أصلا؟ ولماذا نريد أن تسقط الأنظمة الحاكمة في الوقت الحالي؟ وهل راعينا أن هناك فترة زمنية ليست بالقصيرة تغير فيها شكل العالم، وانتشرت خلالها بين أبناء جلدتنا ثقافات وقيم غريبة علينا، بل وأمراض اجتماعية مستعصية؟!!
المتأمل في التاريخ والواقع الحالي يجد أنّ الخلافة لم تسقط مرة واحدة، بل سقطت عدة مرات، كانت في كلِّ مرة تضعف ثم يأتي مَن يحملها ويعيدها إلى عافيتها، وسبب كلِّ الضعف الذي مرت به وحكاه لنا التاريخ، وكذا الضعف الذي تعيشه أمتنا ليس شكل الحكم أبدا، فإن الحكم بعد سقوط الخلافة كان على الشكل الذي نريده -غير أن الأمة تمزقت-حيث إن الأنظمة التي قامت بعد الخلافة وجلُّها (شوروي) من الناحية الشكلية، ومع هذا لم يظهر النور! بل ساد الظلام في ظل هذه الأنظمة.
فسبب سقوط الخلافة إذن ليس هو شكل الحكم أبداً، بل مضمونه والذي هو فقدان القيم، وسبب الظلام الذي تعيشه الأمة اليوم ليس شكل الحكم أيضاً، وكذلك ما يعيشه الغرب الآن من تطور مادي ليس سببه شكل الحكم قطعاً.
وعليه فلا بدَّ مِن بحثٍ عن السبب الحقيقي الذي كان وراء ما نحن فيه الآن، والذي أعتقد أنه عدم تحقيق العبودية لله وحده وغياب منظومة القيم الإسلامية والأخلاق النبوية، فأمّتُنا لما خرجت من صحراء جزيرة العرب تفتح العالم كان يقودها نبيٌّ يأتي إليه الرجل، فيغلظ على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يتقاضاه، فَيَهُمُّ به أصحاب رسول الله صلى الله وسلم ليضربوه، فيقول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِصاحبِ الحقِّ مقالًا) ثم قضاه أفضل مِن حقّه، وقال: (أفضلُكم أحسنُكم قَضاءً). أخرجه البخاري (3/162رقم2609) واللفظ له، ومسلم (3/1225رقم120 -1601).
نبي وضع لأمته قاعدةً في رفعتها إلى يوم القيامة بقوله: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) أخرجه مسلم في صحيحه (3/1315رقم9-1688)
إنّ عمارة الأرض تحتاج إلى القيم والأخلاق التي وجدنا بعضها عند العرب وغيرهم مِن الأمم السالفة، ثم جاء بها الإسلام كاملة على أحسن وجه، وإنّ الخلافة لما سقطت لم تسقط لأنها غيرت شكل الحكم، بل لأنها غيرت مضمون الحكم وهدفه، وهو تخليها عن القيم الربانية والتي من أهمها العدالة وصيانة الحقوق وحفظها لأهلها بدون تفريق بين غني وفقير، وبين قوي وضعيف، تلك العدالة التي لا نكاد نقرأ جزءاً مِن كتاب الله إلا ونجد أمراً بها أو نهياً عن ضدها، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة:8).
فلتكن هذه القيم والمبادئ العظيمة التي ساد بها أسلافنا الدنيا حاضرةً في ثقافة شعبنا، ومشروع نخبتنا؛ لأنها هي المسار الحقيقي للتقدم والرقي.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.