حكم الحضانة في حال أرادت المرأة اللحاق بأهلها في أرض العدو

الشيخ عبد الرحمن الضحيك

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فمن خلال أوضاع الحرب التي تعيشها بلادنا، وبسبب التضييق العالمي على أهلنا، ظهرت انعكاساتٌ خطيرة على المجتمع السوري بشكلٍ عام، وعلى الأسرة السورية بشكلٍ خاص، وكان مِن نتائجها ارتفاع نسبة الطلاق بشكل ملحوظ مما يؤدي إلى تشرد الأسر، وتفرق أفرادها بسبب ضياع الأمان، وانعدام الاستقرار إلى حدٍّ كبير.
وعند وقوع الطلاق تترتب آثارٌ وأحكامٌ، ومنها حضانة الصغار، ومِن المقرّر أنّ الحضانة ابتداء إنما تكون للأم، ولكن إذا اختارت الأمُّ في هذه الأوضاع اللَّحاقَ بأهلها في المناطق التي يسيطر عليها النظام، فهل لها الخروج بالمحضون؟ أم أنها تسقط حضانتُها بذلك ؟
وهذا يستدعي الحديث عن مكان وموضع الحضانة، وحكم الانتقال بالمحضون.
مكان الحضانة وحكم انتقال الحاضن أو الولي:

أولاً: مكان الحضانة:
في الحالة الاعتيادية أثناء الحياة الزوجية المستقرة تكون حضانة الأطفال ورعايتهم في المسكن الذي تقيم فيه الأسرة المكونة مِن الأبوين، ويتعاون الأبوان على القيام بحقّ المحضون، وقد اتفق العلماء مِن حيث الجملة على أنّ الحضانة تكون في المسكن الذي يقيم فيه الزوج؛ إذ أنّ الزوجة -والدة المحضون- ملزمة بمتابعة زوجها والإقامة معه أينما حلّ، وكذلك الحال إذا كانت الزوجة معتدّةً مِن طلاق رجعي أو بائن؛ فإنه يلزمها البقاء في مسكن الزوجية حتى تنقضي العدة سواء مع الولد أو بدونه؛ لقوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَة} [الطلاق:1].
فإذا انقضت العدةُ فمكان الحضانة هو البلد الذي يقيم فيه والد المحضون أو وليه؛ لأنّ للأب حقَّ رؤية المحضون، والإشراف على تربيته، وذلك لا يتأتّى إلا إذا كان الحاضن يقيم في بلد الأب أو الولي، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم().
ثانياً: حكم انتقال الحاضن أو الولي:
اتفق العلماء على أنه إذا سافرت الأم مع الأب بقيت على حضانتها.
أما إذا انتقل الحاضن، أو الولي إلى بلدٍ آخر ففيه اختلاف بين العلماء، وبيان ذلك كما يلي:

أولاً: مذهب الحنفية:
ذهب الحنفية إلى أنه إن كانت قد انقضت عدة المرأة الحاضنة فيجوز لها الخروج بالمحضون من حيث الجملة، ولكن يفرق بين ما إذا كانت البلدة المقصودة قريبة أو بعيدة:
1 – إذا خرجت إلى بلدة قريبة فيشترط:
أ – أن يمكن لأبيه رؤيته والعودة في نهاره.
ب – ألا يكون المكان الذي انتقلت إليه أقلَّ حالاً من المكان الذي تقيم فيه حتى لا تتأثر أخلاق الصبي.
2 – إذا خرجت إلى مكان بعيد فيشترط:
أ – أن يكون البلد الذي انتقلت إليه وطنها.
ب – أن يكون الزوج قد عقد نكاحه عليها في هذا البلد.
ج – ألا يكون المكان الذي انتقلت إليه دار حرب إذا كان الزوج مسلماً أو ذمياً.
قال الكاساني: «وأما إذا كانت منقضية العدة فأرادت أن تخرج بولدها من البلد الذي هي فيه إلى بلد فهذا على أقسام: إن أرادت أن تخرج إلى بلدها وقد وقع النكاح فيه؛ فلها ذلك … لأن المانع هو ضرر التفريق بينه وبين ولده وقد رضي به؛ لوجود دليل الرضا، وهو التزوج بها في بلدها؛ لأنَّ مَن تزوج امرأة في بلدها فالظاهر أنه يقيم فيه، والولدُ مِن ثمرات النكاح، فكان راضياً بحضانة الولد في ذلك، فكان راضياً بالتفريق. ولو أرادت أن تنقل الولد إلى بلد ليس ذلك ببلدها، ولكن وقع النكاح فيه … ليس لها ذلك …؛ لأنّ ذلك البلد الذي وقع فيه النكاح ليس ببلدها ولا بلد الزوج بل هو دار غربة لها … هذا إذا كانت المسافة بين البلدين بعيدة، فإن كانت قريبة بحيث يقدر الأب أن يزور ولده ويعود إلى منزله قبل الليل فلها ذلك؛ لأنه لا يلحق الأبَ كبيرُ ضررٍ بالنقل بمنزلة النقل إلى أطراف البلد ….
وليس للمرأة أن تنقل ولدها إلى دار الحرب وإن كان قد تزوجها هناك وكانت حربية بعد أن يكون زوجها مسلماً أو ذمياً؛ لأنَّ في ذلك إضراراً بالصبي؛ لأنه يتخلق بأخلاق الكفرة فيتضرر به، وإن كان كلاهما حربيين فلها ذلك؛ لأنّ الصبي تبع لهما، وهما مِن أهل دار الحرب».
هذا إذا كانت الحاضنة هي الأم، فإن كانت غيرها فلا يجوز لها الخروج بالصغير إلى أي مكان إلا بإذن الأب؛ لعدم العقد بينهما.
كما يرى الحنفية أنه ليس للأب أو الولي أخذ الصغير ممن له الحضانة من النساء والانتقال به مِن بلد أمِّه بلا رضاها ما بقيت حضانتُها قائمة، ولا يسقط حقُّها في الحضانة بانتقاله، وسواء أكان المكان الذي ينتقل إليه قريباً أم بعيداً.
ثانيا: مذهب الجمهور:
يفرق جمهور الفقهاء -المالكية والشافعية والحنابلة- بين سفر الحاضنة أو الولي للنُّقْلة والانقطاع والسُّكنى في مكان آخر، وبين السفر لحاجة كالتجارة والزيارة.
فإن كان سفر أحدهما (الحاضنة أو الولي) للنُّقلة والانقطاع سقطت حضانة الأم، وتنتقل لمن هو أولى بالحضانة بعدها بشرطين:
الأول: أن يكون الطريق آمناً.
الثاني: أن يكون المكان المنتقل إليه مأموناً بالنسبة للصغير.
والأب هو الأولى بالمحضون سواء أكان هو المقيم أم المنتقل؛ لأنّ الأب في العادة هو الذي يقوم بتأديب الصغير، وحفظ نسبه، فإذا لم يكن الولد في بلد الأب ضاع، لكن قيّد الحنابلة أولوية الأب بما إذا لم يُرد مضارّةَ الأم وانتزاعَ الولد منها، فإذا أراد ذلك لم يُجَبْ إليه، بل يُعمل ما فيه مصلحة الولد.
وإن كان السفر لحاجةٍ كتجارة وزيارة كان الولد مع المقيم منهما حتى يعود المسافر، وكذا يكون الولد مع المقيم لو كان الطريق أو المكان المنتقَل إليه غيرَ آمن في سفر النقلة والانقطاع.
قال الدردير: «شرط الحاضن أن لا يسافر ولي … أي إذا أراد ولي المحضون سفراً فله أخذُ المحضون مِن الحاضن، وسقط حقُّه مِن الحضانة وإن كان الولد رضيعاً، لكن بشرط أن يقبل الرضيع غيرَ أمه، وأن لا يُخاف على الطفل مِن السفر، أو تسافر هي أي الحاضنة عن بلد الولي فله نزعه منها، وشرطُ سفرِ كلٍّ منهما كونُه سفرَ نُقلةٍ وانقطاع، لا تجارةٍ أو زيارةٍ ونحوها، فلا يأخذه ولا تسقط الحضانة، بل تأخذه معها، ويتركه الوليُّ عندها».
وقال النووي: «ولو أراد أحدُهما سفرَ حاجةٍ كان الولد المميز وغيره مع المقيم حتى يعود، أو سفرَ نقلةٍ فالأب أولى، بشرط أمنِ طريقه والبلد المقصود».
وقال ابن قدامة: «وإذا أراد أحد الأبوين السفر لحاجة ثم يعود، والآخر مقيم، فالمقيم أولى بالحضانة؛ لأنّ في المسافرة بالولد إضراراً به، وإن كان منتقلاً إلى بلد ليقيم به، وكان الطريق مخوفاً أو البلد الذي ينتقل إليه مخوفاً، فالمقيم أولى بالحضانة؛ لأنّ في السفر به خطراً به».
وإن اختلف الأب والأم فقال الأب: سفري للإقامة، وقالت الأم: سفرك للحاجة، فالقول قول الأب مع يمينه.

ثالثاً: موقف القانون:
لم يتعرض القانون السوري لمسألة سفر الوالدة بالمحضون إلى بلاد العدو، وإنما ذكر حكم السفر بالمحضون بشكل عام؛ فاشترط إذنَ كلٍّ مِن الوالدين للآخر عند انفراد أحدهما بالسفر بالمحضون، واستثنى سفر الأم بالمحضون إلى بلدتها التي جرى فيها عقد نكاحها بشرط أن يكون أحدُ محارمها مقيما فيها، فقد جاء فيه:
المادة 148:
1- ليس للأم أن تسافر بولدها أثناء الزوجية إلا بإذن أبيه.
2- للأم الحاضنة أن تسافر بالمحضون بعد انقضاء عدتها دون إذن الولي إلى بلدتها التي جرى فيها عقد نكاحها.
3- ولها أن تسافر به داخل القطر إلى البلدة التي تقيم فيها أو إلى البلدة التي تعمل فيها لدى أي جهة من الجهات العامة شريطة أن يكون أحد أقاربها المحارم مقيماً في تلك البلدة.
المادة 150:
ليس للأب أن يسافر بالولد في مدة حضانته إلا بإذن حاضنته.
كذلك لم يتعرض القانون العربي الموحد لمسألة السفر إلى أرض العدو، وإنما نصَّ على عدم السفر إلا بإذْنٍ كتابي من الولي؛ فقد جاء في المادة 136: لا يجوز للحاضن السفر بالمحضون خارج القطر إلا بموافقة كتابية مِن وليه، وإذا امتنع الولي عن ذلك يرفع الأمر إلى القاضي.

الخلاصة:
بذلك يظهر أن مذهب جمهور العلماء في المرأة التي تريد السفر بالمحضون هو سقوط حضانتها؛ لأنّ الأصلَ عدم الانتقال، ولأنّ للأب حقَّ رؤية المحضون، والإشراف على تربيته، وهذا يفُوتُ في حال سفرها به.
وذهب الحنفية إلى جواز سفر المرأة بالمحضون، ولكنهم اشترطوا لذلك الأمن على المحضون، وأن لا يكون البلد الذي يسافر إليه أسوأ حالاً من البلد المقيم فيه، وهو ما عبروا عنه بدار الحرب.
فإذا أرادت الأم أن تسافر بالمحضون إلى أرض العدو (مناطق سيطرة النظام) فهل لها ذلك؟ مع أنه قد يُخشى على الصبي مِن التأثر بأخلاق مَن يسكن في المناطق التي يسيطر عليها النظام، وبالتالي لا يجوز سفرها به.
أم أن مناطق سيطرة النظام تتمتع بالأمان وعدم القصف، الذي تفتقده المناطق المحررة مِن قصف وقتل وتدمير وتهجير، وبالتالي يجوز انتقالها به، لأن مفسدة البقاء في الأرض المحررة متحققة بينما مفسدة التأثر بأخلاق الكفار مظنونة، وفي هذه الحال تدرأ المفسدة الأشد بارتكاب الأخف؟؟
مقارنة المصالح بالمفاسد في المسألة:
بالنسبة للأمان مِن القصف فالمناطقُ المحررة ليست آمنة مِن القصف، وإن كانت بعض مناطقها أكثر أمناً من غيرها نسبياً، أما مناطق النظام فهي آمنة مِن القصف غالباً، وإن كانت بعض المناطق ليست آمنة نسبياً.
لكن مع التسليم بذلك، وأن المناطق المحررة غير آمنة نسبيا، وأن مناطق النظام آمنة نسبيا، فهل الطريق إلى تلك المناطق آمنة؟
الذي يستقرئ الواقع حالياً يتبين له جلياً أن هذا غير متحقق دائماً؛ إذ أنّ كثيراً مِن حالات الاختطاف، والاتجار بالأعضاء البشرية كانت في هذه الطرق، وكثيرون هم الذين قتلوا على الطريق بسبب سيطرة الميليشيات النصيرية والرافضية وغيرها.
لذلك فالذي أميل إليه هو عدم الخروج بالمحضون إلى أماكن سيطرة النظام؛ لعدم أمان الطريق. وهذا القول متوافق مع مذهب الجمهور الذين لا يجيزون السفر بالمحضون، وكذلك لا يخالف مذهب الحنفية الذين اشترطوا أمان الطريق للخروج به، ويبقى بعد ذلك النظر في كلٍّ حالةٍ بحسبها، ومراعاة مصلحة المحضون.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. لذلك فالذي أميل إليه هو أنه لا يجوز الخروج بالمحضون إلى أماكن سيطرة النظام لعدم أمان الطريق. وهذا القول متوافق مع مذهب الجمهور الذين لا يجيزون السفر بالمحضون، وكذلك لا يخالف مذهب الحنفية الذين اشترطوا أمان الطريق للخروج به.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.