هل يجوز اعتقال الإنسان لمجرد التُّهمةِ، أو لوجود شُبهات تدور حوله؟ وما كيفية التحقيق معه؟ وطريقةُ أخذ المعلومات منه؟ وما الحكم فيمن ماتَ بسبب التعذيب والضرب؟

  • السؤال:
هل يجوز اعتقال الإنسان لمجرد التُّهمةِ، أو لوجود شُبهات تدور حوله؟ وما كيفية التحقيق معه؟ وطريقةُ أخذ المعلومات منه؟ وما الحكم فيمن ماتَ بسبب التعذيب والضرب؟
  • الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالأصل في الإنسان براءةُ الذمة، فلا يجوز توقيفه أو حبسه إلا ببيِّنة شرعية، أو تهمةٍ معتبرة، ويكون التعامل معه خلال ذلك بما يتوافق مع إنسانيته وكرامته، فإن تضرَّر المتهم أو ماتَ بسبب التعذيب، وَجَب على المتَسبب ضمان الضَّرر، وبيان ذلك فيما يلي:
أولاً: حكم توقيف المتَّهم الذي لم تَقُم بينةٌ شرعيةٌ على ارتكابه لشيءٍ من الجرائم:
1- إن كان ممن عُرف بالفضل والصلاح والسيرة الحسنة: فلا يجوز توقيفه لمجرد التُّهمة دون وجود بيِّنةٍ شرعيةٍ تُثبت الدعوى، بل قد يُعزَّر من يتَّهمه دون بيِّنة.
قال أبو الحسن الطرابلسي الحنفي في “مُعين الحكام”: “أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ بَرِيئًا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ التُّهْمَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا مَشْهُورًا، فَهَذَا النَّوْعُ لَا تَجُوزُ عُقُوبَتُهُ اتِّفَاقًا”.
وقال ابن تيمية في “الفتاوى”: “فَهَذَا لَا يُحْبَسُ وَلَا يُضْرَبُ؛ بَلْ وَلَا يُسْتَحْلَفُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ؛ بَلْ يُؤَدَّبُ مَنْ يَتَّهِمُهُ فِيمَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ”.
لكن ذلك لا يمنع من سؤالِه، أو البحث والتحقُّق من التُّهمة الموجهة إليه.
2- وإن كانَ مستورَ الحال، لا يُعرف بخير ولا شر، أو كان معروفًا بالفجور وارتكاب الجرائم والموبقات: فيجوز توقيفه وسؤاله للتوثق من حاله، والتأكد من التهمة الموجهة إليه.
ويدل على ذلك: ما رواه أحمد وغيره عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: (أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا مِنْ قَوْمِي فِي تُهْمَةٍ، فَحَبَسَهُمْ).
قال الطرابلسي في “مُعين الحكام”: “أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ مَجْهُولَ الْحَالِ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالْوَالِي لَا يَعْرِفُهُ بِبِرٍّ وَلَا فُجُورٍ، فَإِذَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ تُهْمَةٌ، فَهَذَا يُحْبَسُ حَتَّى يَنْكَشِفَ حَالُهُ، هَذَا حُكْمُهُ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ”.
وقال ابن تيمية في “مجموع الفتاوى”: “فَإِذَا جَازَ حَبْسُ الْمَجْهُولِ فَحَبْسُ الْمَعْرُوفِ بِالْفُجُورِ أَوْلَى، وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَّبَعِينَ مَنْ قَالَ إنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الدَّعَاوَى يَحْلِفُ، وَيُرْسَلُ بِلَا حَبْسٍ وَلَا غَيْرِهِ”.
  • ثانيًا: يجب أن يكون توقيفُ المتهم والتحقيقُ معه وفق الأصول الشرعية، وبما يتوافق مع إنسانيتِه وكرامته، ويبقى بريئًا حتى يثبت جُرمه.
وإذا كان المتَّهم ممن لا يُعرف بالفجور، وإنما وقعت فيه الرِّيبة: فلا يجوز إيذاؤه بضربٍ أو غيره؛ لإلجائه إلى الإقرار.
ويدل على هذا قولُه صلى الله عليه وسلم في يوم النحر بمكة: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، وَأَبْشَارَكُمْ، عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ) رواه البخاري.
قوله (أبشاركم): جَمْعُ “بَشَرَةٍ” وَهُوَ ظَاهِرُ جِلْدِ الْإِنْسَانِ.
ففي الحديث دلالةٌ واضحة على عصمة المسلم من الإيذاء بالضرب والسب والشتم والإهانة إلا بحق يوجب حدًا أو تعزيرًا، فلا يجوز هدر هذه العصمة لمجرد التهمة.
وإذا كان مجرد خدش البشرة محرماً، فكيف بغيره من أنواع الضرب والتعذيب؟!
قال القسطلاني في “إرشاد الساري”: “شبَّه الدماء والأموال والأعراض والأبشار في الحرمة باليوم وبالشهر والبلد؛ لاشتهار الحرمة فيها عندهم”ـ
والمصلحة المظنونة بضرب هذا المتهم معارَضةٌ بمصلحةِ عصمةِ الأنفس والأموال التي تقتضي ألا يعاقَب الإنسان دون ثبوت الجناية عليه.
  • ثالثاً: إن كان المتَّهم معروفًا بالفجور والإجرام واحتيج إلى الكشف عن أدلة أو شركاء آخرين، أو كان معه أسرار للعدو تنفع المسلمين، وصاحبَ ذلك قرائنُ، ولم يقِرَّ من نفسه: جاز إيقاع الأذى عليه بضرب أو غيره للكشف عنها.
ويدل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر اشترط على اليهود أَنْ لَا يَكْتُمُوا وَلَا يُغَيِّبُوا شَيْئًا، فَإِنْ فَعَلُوا فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ، فَغَيَّبُوا مَسْكًا [الَمسْك: الجلد] فِيهِ مَالٌ وَحُلِيٌّ لِحُييِّ بْنِ أَخْطَبَ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم “عمَّ حييّ” عن هذا الحلي فأنكر (فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الزُّبَيْرِ فَمَسَّهُ بِعَذَابٍ) رواه ابن حبان في صحيحه.
قال ابن تيمية في “الفتاوى”: “فَهَذَا أَصْلٌ فِي ضَرْبِ الْمُتَّهَمِ الَّذِي عُلِمَ أَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا، أَوْ فَعَلَ مُحَرَّمًا”.
وقال ابن القيم في “الطرق الحُكمية”: “وَيَسُوغُ ضَرْبُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمُتَّهَمِينَ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّبَيْرَ بِتَعْذِيبِ الْمُتَّهَمِ الَّذِي غَيَّبَ مَالَهُ حَتَّى أَقَرَّ بِهِ”.
وقد روى مسلم في صحيحة  أنَّ المسلمين ظفروا في غزوة بدر برجل من المشركين، ورجوا أن يرشدهم إلى قافلة أبي سفيان وضربوه للإقرار، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
قال الشاطبي في “الاعتصام”: ” فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الضَّرْبُ وَالسَّجْنُ بِالتُّهَمِ؛ لَتَعَذَّرَ اسْتِخْلَاصُ الْأَمْوَالِ مِنْ أَيْدِي السُّرَّاقِ وَالْغُصَّابِ، إِذْ قَدْ يَتَعَذَّرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي التَّعْذِيبِ وَسِيلَةً إِلَى التَّحْصِيلِ بِالتَّعْيِينِ وَالْإِقْرَارِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فَتْحُ بَابِ تَّعْذِيبِ الْبَرِيءِ!
قِيلَ: فَفِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ إِبْطَالُ اسْتِرْجَاعِ الْأَمْوَالِ، بَلِ الْإِضْرَابُ عَنِ التَّعْذِيبِ أَشَدُّ ضَرَرًا، إِذْ لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ لِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، بَلْ مَعَ اقْتِرَانِ قَرِينَةٍ تَحِيكُ فِي النَّفْسِ، وَتُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ نَوْعًا مِنَ الظَّنِّ”.
  • رابعًا: الأذى المشروع للمتهم يكون بما لا يَشُق جلدًا، ولا يُنهر دمًا، ولا يَكسر عظمًا، ولا بد من مراعاة ذلك في الآلة، والكيفية.
فلا يجوز تعذيب المتهم بالضرب على: الوجه، والصدر، والنحر، والبطن، ومكان العورة؛ لأنها مواضع مخوفة يُخشى عليه فيها من الهلاك، أو الضرر.
ولا يجوز تعذيبه: بالنار أو الكهرباء، ولا تعريضه للبرد أو الحر الشديد، أو تجريده من الملابس وكشف عورته، أو قلع أظفاره أو شعره، أو حرمانه الطويل من الطعام أو النوم، أو تعذيبه بما فيه إهدار آدميته كشتمه ولعنه وتحقيره، أو منعه من العلاج، وغير ذلك من صور الإذلال والاحتقار.
فقد: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ) رواه مسلم.
وفي “مصنف ابن أبي شيبة” عَنْ عَلِيٍّ، أنه أُتِيَ بِرَجُلٍ سَكْرَانَ أَوْ فِي حَدٍّ، فَقَالَ: “اضْرِبْ، وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ، وَاتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ”.
قال السفاريني في “غذاء الألباب”: ” وَيَجْتَنِبُ: الْوَجْهَ، وَالْبَطْنَ، وَالْمَوَاضِعَ الْمَخُوفَةَ”.
وجاء في “صحيح مسلم” عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ قال إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: (إنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا).
وسُئِلَ الإمام مَالِكٌ رحمه الله تعالى عَنْ عَذَابِ اللُّصُوصِ بِالدُّهْنِ [كالقطران ونحوه] وَبِهَذِهِ الْخَنَافِسِ الَّتِي تُحْمَلُ عَلَى بُطُونِهِمْ.
فَقَالَ: “لَا يَحِلُّ هَذَا، إنَّمَا هُوَ السَّوْطُ أَوْ السِّجْنُ” .
قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْت إنْ لَمْ نجِدْ فِي ظَهْرِهِ مَضْرَبًا أَتَرَى أَنْ يُسَطَّحَ فَيُضْرَبَ في أليتيه؟
فَقَالَ: “لَا وَاَللَّهِ مَا أَرَى ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ الضَّرْبُ فِي الظَّهْرِ بِالسَّوْطِ وَالسِّجْنُ”. ينظر: “تبصرة الحكام”، و”النوادر والزيادات”.
قال ابن رشد في “البيان والتحصيل”: “لا يصلح أن يُعاقَب أحدٌ فيما يلزمه فيه العقوبة إلا بالجلد والسجن الذي جاء به القرآن، وأما تعذيب أحد بما سوى ذلك من العذاب فلا يحل ولا يجوز”.
  • خامسًا: إن حصل للمتهم أو السجين تلفٌ بسبب التعدِّي في ضربه أو تعذيبه،  ففيه الضمان بما يوجبه من عقوبة، أو قصاص، أو أَرْش (تعويض).
فإن مات تحت التعذيب، فلا يخلو من حالين:
1- أن يكون الضرب مشروعًا في مثل حاله، وحصل بالقدر المشروع دون ظلم واعتداء، ففي هذه الحال يكون هدرًا لا ضمان فيه، ولا شيء على من ضربه.
قال ابن قدامة في “المغني”: “وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ، أَنَّهُ إذَا أُتِيَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَنْ تَلِفَ بِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فَعَلَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ”.
وهذا الضرب وإن لم يكن في حدٍ شرعيِّ؛ لكنه في حكمه؛ لأنه ضربٌ مشروع ومأذون فيه، وما ترتب على المأذون فهو غير مضمون.
2- أن يكون التعذيب غير مشروع، أو كان مشروعًا لكن حصل فيه اعتداء كماً أو كيفاً، ففي هذه الحال يتحمل المعتدي الضمان:
أ- فإن كان فعله يقتل المتَّهم يقينًا أو غالبًا، لطبيعة الوسيلة، كالمنع من الطعام، أو العلاج، أو الضرب بالآلات الحادة، أو كان المتهم لا يحتمل هذا الأذى لضعفٍ، أو مرضٍ، فإن الجناية تكون من باب “القتل العمد” عند جمهور الفقهاء، ويكون الحق فيها لأهل الميت في الاختيار بين القصاص، أو الدية، أو العفو دون مقابل.
ب- وإن كان الفعلُ لا يقتل عادةً، أو وقع على شخصٍ أو مكانٍ لا يموت منه الإنسان غالباً، فهذا من باب “القتل شبه العمد “، تجب فيه الدية المُغلَّظة إلا أن يعفو أهل القتيل.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (أَلا إنَّ قَتِيلَ الْخَطَأ شِبْهِ الْعَمْدِ : قَتِيلُ السَّوْطِ أَوْ الْعَصَا، فِيهِ مِائَةٌ مِنْ الإِبِلِ : مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا) رواه أبو داود، والنسائي.
قال في “كشاف القناع”: “وَإِنْ أَسْرَفَ فِي التَّأْدِيبِ بِأَنْ زَادَ فَوْقَ الْمُعْتَادِ، أَوْ زَادَ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ…: ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِي ذَلِكَ شَرْعًا”.
وقال السرخسي في “المبسوط”: “وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ: فَهُوَ مَا تَعَمَّدْت ضَرْبَهُ بِالْعَصَا أَوْ السَّوْطِ أَوْ الْحَجَرِ أَوْ الْيَدِ، فَإِنَّ فِي هَذَا الْفِعْلَ مَعْنَيَيْنِ:
الْعَمْدِ بِاعْتِبَارِ قَصْدِ الْفَاعِلِ إلَى الضَّرْبِ.
وَمَعْنَى الْخَطَأِ بِاعْتِبَارِ انْعِدَامِ الْقَصْدِ مِنْهُ إلَى الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْآلَةَ الَّتِي اسْتَعْمَلَهَا آلَةُ الضَّرْبِ لِلتَّأْدِيبِ دُونَ الْقَتْلِ”.
  • سادسًا: الاعتراف الصادر من المتهم بسبب التعذيب إذا لم يعتضد بأدلة أو قرائن: لا قيمة له شرعًا، ولا يعتدُّ به.
قال تعالى في المكره: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].
فإذا كان الشرع لم يؤاخذ الناطق بالكفر عند الإكراه، فمن باب أولى ألا يؤاخذ غيره بإقراره إذا كان على سبيل الإكراه .
وفي الحديث: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) رواه ابن ماجه ، وحسنه بعض العلماء.
وقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: “لَيْسَ الرَّجُلُ أَمِينًا عَلَى نَفْسِهِ: إِذَا أَجَعْتَهُ، أَوْ أَوْثَقْتَهُ، أَوْ ضَرَبْتَهُ” أخرجه عبد الرزاق في مصنفه.
أي: لا يؤمن أن يقر الإنسان على نفسه بجرم لم يفعله بسبب الجوع والضرب.
ولا بد من التفريق بين مقام الضرب والتهديد لأجل الوصول إلى الحقيقة والصدق فيما يقول، فهذا مشروع، وبين فعل ذلك ليقرَّ بجرم معين لا دليل عليه إلا اعترافه تحت الإكراه، فهذا لا يجوز، ويُعد إقراره لاغيًا لا عبرة به.
على أنه لو أدى الاعتداء في التعذيب إلى كشف أدلة وقرائن في القضية، فلا تُردُّ هذه الأدلة لحرمة الوسيلة الموصلة إليها.
  • سابعًا: يجوز حبس المتهم لمصلحة التحقيق، وينبغي أن يكون مكان الحبس مناسبًا ولائقًا، وأن يُنفَق عليه، ويُطعم كفايته، حسب القدرة والميسور.
روى البيهقي في “السنن الكبرى” عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي ابْنِ مُلْجَم [وهو عبد الرحمن بن ملجم الخارجي قاتل علي بن أبي طالب] بَعْدَمَا ضَرَبَهُ بِهِ: “أَطْعِمُوهُ، وَاسْقُوهُ، وَأَحْسِنُوا أَسَارَهُ، فَإِنْ عِشْتُ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي، أَعْفُو إِنْ شِئْتُ، وَإِنْ شِئْتُ اسْتَقَدْتُ، وَإِنْ مُتُّ فَقَتَلْتُمُوهُ، فَلَا تُمَثِّلُوا”.
غير أنَّه لا يجوز توقيف أو سجن أقارب المتَّهم أو المجرم، للاعتراف، أو لتسليم نفسه؛ فمن قواعد الشريعة: أنَّ المسؤولية الجنائية شخصية، فلا يسأل عن الجرم إلا فاعله ولا يؤخذ امرؤ بجريرة غيره مهما كانت درجة القرابة بينهما.
قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
وجاءت أحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – تؤكد هذا المبدأ حيث يقول: (لَا يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِجَرِيرَةِ أَبِيهِ، وَلَا بِجَرِيرَةِ أَخِيهِ ) رواه النسائي.

وأخيرًا:

فإنَّه لا بد في جميع مراحل التحقيق أو التوقيف أو السجن للمتهم، من مراعاة الحفاظ على حقوقه وحقوق ذويه، وأن يكون ذلك بعلم القضاء وإشرافه، ووفق بلاغٍ رسمي معتمد، دون تجسسٍ أو انتهاك لحرمات البيوت.
 ولعل مما يعين على ذلك الأخذ باللوائح والأنظمة المتعلقة بالإجراءات الجزائية، واللوائح التنظيمية لأصول الاتهام، والاعتقال، والسجن، ونحو ذلك(*).
والحمد لله رب العالمين
( لتحميل الفتوى مطوية pdf من هنا)