• كان نصر بن زياد بن نهيك (ت236) أحد أولئك القضاة العظام ..
تولى قضاء نيسابور بضع عشرة سنة، وكان محمود السيرة عند السلطان والرعية، وكانت الرسائل والمكاتبات متواترة بينه وبين الخليفة المأمون .
وكان شرط ذلك القاضي على ولي الأمر أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان لا يرضى مِن العمال حتى يؤدّوا حقوق الناس إليهم، وكان يقوم الليل ويصوم الاثنين والخميس والجمعة، فدخل عليه أحمد بن حرب يوماً يعظه، فنصحه بأن يستعفي مِن القضاء، فقال له نصر: يا أبا عبد الله ما يحملني على ما أنا فيه إلا نصرة الملهوفين، والقدرة على الانتصار للمظلومين مِن الظالمين، ولعلّ الله عز وجل قد عرف لي ذلك.
وكان بعضهم ـ تحرياً للورع ـ يرفض تولي القضاء؛ لأنه يعتبر عمله قاضياً مشاركة للدولة في أعمالها التي لا يوافق عليها، ولكن نصر بن زياد جاء بمفهوم جديد أكثر إيجابية هو أن ينهض بوظيفة القضاء؛ ليقيم مِن خلالها العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذلك يؤثر في مجتمعه بالخير، ولا يكتفي بالعزلة والزهد.
• ذكر المؤرخون أنّ رجلاً قدم شكوى إلى عبد الله بن طاهر القائد العباسي المشهور في وقته. فقال له: مَنْ خصمُك؟
فقال الرجل: أنت أيها الأمير أصلحك الله.
فقال: ما الذي تدَّعي عليَّ؟
قال: ضيعةٌ لي في هَراة، غصبها والدُ الأمير، وهي اليوم في يده.
قال: ألك بينة؟ قال: إنما تقام البينة أمام القاضي .
فاستدعى الأمير عبد الله بن طاهر القاضي نصر بن زياد إليه، وقال الأمير للرجل: ادَّعِ. فادَّعى الرجل حجته مرة بعد مرة، والقاضي لا يلتفت إليه ولم يسمع دعواه.
ففهم الأمير أنه قد امتنع من نظر الدعوى حتى يجلسَ الأمير مع الرجل أمامه في مجلس الحكم متساويين.
وقام الأمير مِن مجلسه، وجلس بجانب الرجل، وعندئذ قال القاضي للرجل: ادَّعِ، فقال: أيّد الله القاضي، إنّ ضيعةً لي بهراة – وذكرها بحدودها وحقوقها- هي لي في يد الأمير، فقال له الأمير عبد الله بن طاهر: أيها الرجل قد غيرتَ الدّعوى! إنما دعيت أولاً على أبي، فقال له الرجل: لم أُرد أنْ أفضْح والدَ الأمير في مجلس الحكمِ أمام القاضي وأقول والدُ الأمير غصبني ضيعتي، وإنها اليوم في يد الأمير.
فسأل نصر بن زياد الأميرَ عن دعواه فأنكر، فالتفت إلى الرجل وقال: ألك بينة؟
قال: لا.
قال: فما الذي تريد؟
قال: يمينُ الأمير بالله الذي لا إله إلا هو . فقام الأمير إلى مكانه وأمر الكاتب ليكتب إلى هراة برد الضيعة عليه.
[المنتظم (11/246) ].
• جميل بن كريب المعافري مِن أهل إفريقية، وكان مِن أهل العلم والدين. وسأله الأمير عبد الرحمن بن حبيب الفهري تولي القضاء، فامتنع وتمارض وشرب ماء التبن حتى اصفرّ لونه، فبعث إليه عبد الرحمن فقال له: إنما أردت أن تكون عونًا على الأمر، وأقلّدك أمرَ المسلمين، فتحكم عليَّ وعلى مَن دوني بما تراه مِن الحق، فاتق الله في الناس.
فقال له جميل: آلله إنك لتفعل؟ فقال: آلله. فقبل.
فما مر إلا أيام حتى أتاه رجلٌ يدعي على عبد الرحمن بن حبيب دعوى، فمضى معه إلى باب دار الإمارة، فقال للحاجب: أعلمِ الأمير بمكاني، وأن هذا يدَّعي عليه بدعوى.
فدخل فأعلمه.
وكان عبد الرحمن مِن أغنى مَن ولي إفريقية، ولكنه احتراماً للقاضي لبس رداء ونعلين وخرج إليه، فأقعده القاضي جميل مقعدَ الخصم مع صاحبه، ثم نظر بينهما فأنصفه عبد الرحمن.
وكان جميل يركب حمارًا رسنُه ليف، وقعد فأراد أحدهما أن يمسك رأس الحمار فمنعه وأمسكه هو ثم ركب.
[المنتظم (8/23)].