السؤال :
رجل ذهب إلى ابنته المتزوجة وعندما وصل قرع الباب فلم ترد عليه، فأخذته الريبة والشك، فخلع الباب ودخل إلى غرفة نوم ابنته التي كان زوجها يعمل خارج البيت، فرآها بملابسها الداخلية وخلفها رجل يلبس البنطلون، فضربه الأب، فهرب وهربت البنت معه، فأخبر الرجل أخاه وابنه، وحينها قاموا بالبحث عنها، فوجدها عمها بعد ساعتين وقام بإطلاق الرصاص عليها فقتلها، وادعى الأب على صاحب ابنته بأنه تسبب بقتلها وألحق العار بهم فقضى القاضي بعدم عصمة دم القتيلة كونها زانية محصنة، حيث أقر المدعى عليه بأنه قد زنى بها مرتين، وبالحكم على المدعى عليه بالجلد مائة جلدة وتغريب عام كونه غير محصن، والحكم عليه أيضا بالسجن مدة سبع سنوات لتسببه في قتل المرأة، وتعزير عمها القاتل بالسجن لمدة ثلاثة أشهر ودفع غرامة قدرها مائة وخمسون ألف ليرة سورية.
والسؤال ما هو رأي الشرع في القضية وفي الحكم الذي صدر فيها ؟
الجواب :
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد :
فالواجبُ على المسلم في مثلِ هذه الحال ألا يستعجل، وألا يقودَه غضبُه للانجرار إلى القتل مهما كانت الأسبابُ، فالقتلُ كبيرةٌ مِن الكبائر و(لا يزال المؤمنُ في فسحةٍ مِن دينه ما لم يصبْ دماً حراماً) أخرجه البخاري .
فاستحلالُ الدّم لا يجوز شرعاً إلا عند وجودِ السّبب الشرعي المقتضي لذلك؛ كما قال : (لا يحلُّ دمُ امرئٍ مسلمٍ، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاثٍ: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) متفق عليه مِن حديث ابن مسعود .
ولا بدّ في ذلك مِن ثبوت الجريمة بالطّرقِ المعتبرةِ شرعاً، والتلبس بما ورد ذكرُه في السؤال ممّا شاهده الأبُ لا يكفي لإثبات الزّنا شرعاً، ولا يبيح إيقاع العقوبة المترتبة عليه، فإثباته لا يكون إلا بأحد أمرين : شهادة أربعةٍ مِن العدول برؤية الفاحشة، وتحقق الجماع، أو إقرار الزاني على نفسه بأنه قد زنا.
وأما إقرار الرجل بما فعله مِن الزنا فإنه لازمٌ له، وقاصرٌ عليه لا يتعدى إلى المرأة التي ادعى أنه زنى بها، فلا يُقبل قوله عليها، ولا يعدو أن يكون مجرّد دعوى تحتاج إلى إثبات؛ فقد جاء في حديث العسيف -وهو الأجير- الذي زنى بالمرأة حين أقر على نفسه بالزنا أنّ النبي قال لأحدِ الصّحابة : (واغْدُ يا أُنيسُ إلى امرأةِ هذا، فإن اعترفَتْ فارْجُمها، فغدا عليها، فاعترفت فأمر بها رسولُ الله فرُجمت) متفق عليه . فلم يعتبر بإقراره عليها، كما أنّ الزاني ثبت فجورُه وفسقُه باعترافه بالفاحشة، فلا اعتبار بقوله وشهادتِه في حقّ غيره .
فظهر بذلك أنّ ما حَكم به القاضي مِن عدم عصمة المقتولة؛ لثبوت كونها زانيةً محصنةً ليس في محلّه، ويجب نقضُه، بل ليس لأحدٍ أن يرميَها بما لم يثبت عليها، ومَن فعله استحقّ العقوبة.
وإقامةُ الحدود حَصَرها الشارعُ في القضاء، وليس لآحادِ النّاس أنْ يقيموا العقوباتِ الشّرعيةَ على غيرهم، فوليُّ أمر المرأة ليس مخولاً بإقامة الحدّ عليها حتى لو رأى منها الزنا بعينيه، وتأكّد مِن ذلك، فضلاً عمّن لم يطّلعْ على الفعل، ولم يشهده، وليس ولياً للمرأة كما هو الحال في العمّ هنا.
فإذا قام قريبُ المرأة بقتلها بتهمة الزنى فإنّه يجب عليه أنْ يأتي بالبيّنة، وهي أربعةُ عدولٍ يشهدون بالزنا، فإنْ شهدوا فلا قصاصَ ولا ديةَ، ولكنّه يُعزّر ويُؤدّب؛ لقيامه بما ليس لأفراد الناس فعلُه ممّا يختص بالقضاء، وإن لم يكن معه شهودٌ فعليه القِصاص إلا أن يتنازل أولياءُ القتيل عنه، فتجب عليه الدّية، ويستحقُّها ورثتُها كسائر ما تتركه مِن أموالها، وإذا تنازل بعضُ ورثة المقتولة عن حقّهم في الدّية فلا يُسقط ذلك حقَّ البقية.
فما ذُكر في السؤال مِن تعزير العمّ بالسجن مناسبٌ إذا تنازل الورثةُ عن القصاص، ويُكتفى بالدّية عن التّعزير بالمال .
وأمّا إقامةُ الحدِّ على الرّجل غير المحصَن الذي أقرّ على نفسِه بالزنا بجلدِه مائةَ جلدةٍ، وتغريبِ عامٍ فهو ما دلّت عليه نصوص الكتاب والسنة.
وأما تعزيرُه بالسّجن مدةَ سبعِ سنوات؛ لتسببه في قتل المرأة فهو تعزيرٌ شديدٌ، لا يساوي الحدُّ الذي شرعه الله تعالى بجانبه شيئاً، فيكون مخالفاً لضوابط التّعزيرات الشرعية، بل هو مخالفٌ لما شرعه الله في حقِّ مرتكب هذا الفعل؛ فالنبي لم يعزّر العسيف الذي زنا بالمرأة، وتسبّب في قتلها حدّاً، لكن يُمكن أن يعزّر تعزيراً مناسباً؛ لانتهاكه حرمة البيت، وتسببه في إلحاق العار بأهل المرأة، بشرط أن يكون التعزيرُ أخفَّ مِن الحدّ. والله أعلم .
المجلس العلمي لمعهد إعداد القضاة