التعرض للأحكام القضائية النهائية من قبل القضاء الحالي في المناطق المحررة
الأستاذ القاضي عدنان الويس
بداية لنُعد صياغة السؤال أو العنوان بطريقة شرعية متوافقة مع لغة الفقهاء على الشكل التالي:
هل يجوز نقضُ حكمِ القاضي، وما هي الحالات التي يجوز فيها نقض الحكم القضائي؟
فأقول في جواب هذا السؤال مستعيناً بالله تعالى :
النَّقضُ لغةً : ضدُّ الإبرام، فهو إفسادُ ما أبرمتَ مِن عقدٍ أو بناءٍ أو حبلٍ أو عهدٍ، وانتقضتِ الطّهارةُ : بطَلَت، وانتقض الجرحُ بعد بُرئه، والأمرُ بعد التئامه: فسدَ. [انظر: لسان العرب (7/242)، المصباح المنير (2/621)] .
فالمرادُ بنقضِ الحكم القضائي: إبطالُه وإلغاؤه.
وقد اختلف الفقهاء فيما يُنقَض مِن الأحكام وما لا يُنقَض، ويمكن تقسيم الأحكام باعتبار جواز نقضِها إلى ثلاث حالات:
الحالة الأولى:
أحكامٌ يجب نقضُها اتفاقاً، وهي باطلةٌ شرعاً، لا اعتبارَ بها:
وهي (الأحكام التي تخالف نصوصَ الكتاب أو السّنةِ الصّحيحة أو الإجماع أو القياس الجلي).
وفيما يلي ننقل بعضَ أقوال علماء المذاهب الأربعة في هذه المسألة:
فعند الحنفية: قال ابن مودود الموصلي: “وإذا رُفع إليه قضاء قاض أمضاه إلا أن يخالف الكتاب أو السنة المشهورة أو الإجماع”. [الاختيار لتعليل المختار (2/ 87)] .
وعند المالكية: قال القرافي مبيناً الحكم الذي يجوز نقضه: “هو الحكم الذي خالف أحد أربعة أمور:
-إذا حكم على خلاف الإجماع ينقض قضاؤه.
– أو خلاف النص السالم عن المعارض.
-أو القياس الجلي السالم عن المعارض.
– أو قاعدة مِن القواعد السالمة عن المعارض.
ولا بد في الجميع مِن اشتراط السلامة عن المعارض، أي المعارض الراجح، فإنه لو قضى في عقد الربا بالفسخ لم ينقض قضاؤه، وإن كان قضاؤه على خلاف قوله تعالى: {وأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ} [البقرة: 275]؛ لأنه عورض بالنّصوص الدّالة على تحريم الرّبا.
وكذلك لو قضى في لبن الـمُصَرّاة بالثمن لم يُنقض قضاؤه، وإن كان على خلاف قاعدة إتلاف المثليات أن يجب جنسها؛ لأجل ورود النص في ذلك.
نعم لو قضى بصحة نكاحٍ بغير ولي فسخناه؛ لكونه على خلاف قوله عليه السلام: (أيُّما امرأةٍ أنكحت نفسَها بغير إذن وليِّها فنكاحُها باطل باطل باطل) ..، وكذلك لو حكم حدْساً وتخميناً مِن غير مدرك شرعيٍّ يُنقض إجماعاً، وهو فسقٌ ممّن فعله.” [ الفروق: أنوار البروق في أنواء الفروق للقرافي (4/ 40)].
وعند الشافعية: قال النووي: “متى حكم القاضي بالاجتهاد، ثم بان له الخطأ في حكمه، فله حالان، أحدُهما: إن تبين أنه خالف قطعياً كنصِّ كتاب، أو سنةٍ متواترة، أو إجماعٍ، أو ظنَّاً محكماً بخبر الواحد، أو بالقياس الجلي، فيلزمُه نقضُ حكمه.” [روضة الطالبين وعمدة المفتين (11/ 150)].
وعند الحنابلة: قال ابن قدامة: “الحاكم إذا رُفعت إليه قضيةٌ قد قضى بها حاكمٌ سواه، فبان له خطؤه، أو بان له خطأُ نفسِه، نظرت؛ فإن كان الخطأُ لمخالفة نصِّ كتابٍ أو سنة أو إجماع نُقض حكمه”. [المغني لابن قدامة (10/ 50)].
ومِن أمثلة هذه الحالة: لو حكم القاضي في النزاع الواقعِ في الميراث بين الجدِّ والأخ، فجعل في حكمه الميراثَ كلَّه للأخ دون الجد، فهذا حكمٌ باطلٌ يجب نقضُه؛ لأنه خالف الإجماع، فأهلُ العلم منهم مَن يرى أنَّ الجدَّ يَحجب الإخوةَ ويرث دونهم، ومنهم مَن يرى أنّ الجدَّ والإخوةَ يشتركون في الميراث، ولم يقل أحدٌ مِن الفقهاء بحرمان الجدِّ مِن الميراث في مثل هذه الحالة.
ومِن الأمثلة: تمكين المستأجر مِن العين الـمُؤْجَرة دون الالتفات إلى شروط عقد الإيجار ومدته، وهو ما تسميه القوانين الوضعية: “التمديد الحكمي للعقد “رغماً عن إرادة المؤْجِر، وكذلك تمكين المزارع مِن الأرض الزراعية في عقد المزارعة بينه وبين صاحب الأرض دون الالتفات إلى شروط العقد، وعدم إخلاء العقار في المثال السابق وعدم إعادة الأرض الزراعية وتسليمها لصاحبها إلا بعد إعطاء المستأجر والمزارع أربعين في المئة مِن قيمة العقار أو الأرض، فهذه كلُّها باطلةٌ شرعاً، ولم يبحها أحدٌ مِن أهل العلم.
ومنها: الحكم بالفائدة الربوية التي تجيزها القوانين الوضعية.
ومنها: الحكم على قاتل النفس قصداً بالسَّجن دون القِصاص (الإعدام) متى توافرت شروط تنفيذِ القِصاص، أو الحكم على السارق بالحبس دون قطعِ اليد متى توافرت شروط إقامةِ الحد، وعموماً فأحكامُ القوانينِ الوضعيةِ التي تخالف جرائم الحدود والقصاص وعقوباتها المقدرة شرعاً كلُّها أحكامٌ باطلةٌ يجب نقضُها .
وينبغي التنويه هنا إلى أنَّ اعتماد الأحكام القضائية السابقة على أحكام القانون الوضعي وخلوِّها مِن نصوص الكتاب والسنة أو الإجماع أو غيرها مِن مصادر التشريع لا يعني بالضرورة أنها تخالف أحكام الشريعة الإسلامية، فلا بدَّ من التريث والتأمل في القضايا قبل الحكم بمخالفتها للشريعة، فقد تكون مبنيةً على قولٍ معتبر من أقوال الفقهاء، وكثير من أحكام القوانين المدنية في القانون السوري وغيره مأخوذة من الفقه الإسلامي أو متوافقة معه أو مع بعض مذاهبه.
وسبق أنَّ الأحكامَ التي تتوافق مع اجتهاد معتبر لأهل العلم لا تُنقض، فلا ينبغي التسرع بنقض الأحكام السابقة لمجرد صدورها عن الحكم الوضعي قبل التأكد مِن مخالفتها للأحكام الشرعية.
قال المرداوي في الأحكام إذا صدرت ممّن ليس أهلاً للقضاء: “ويحتمل أن لا يُنقض الصواب منها، واختاره المصنف -يعني ابن قدامة-..، والشيخ تقي الدين ..، وهو ظاهر كلام الخرقي، وأبي بكر، وابن عقيل، وابن البنا، حيث أطلق: أنه لا يُنقض مِن الحكم إلا ما خالف كتاباً أو سنةً أو إجماعاً.
قلتُ: وهو الصّوابُ، وعليه عملُ الناسِ مِن مُدَدٍ، ولا يسع الناسَ غيرُه، وهو قول أبي حنيفة، ومالك رحمهما الله، وأمّا إذا خالفت الصّواب: فإنها تُنقض بلا نزاع”. [الإنصاف في معرفة الراجح مِن الخلاف للمرداوي (11/225)].
الحالة الثانية:
أحكامٌ قضائية لا يجوز نقضُها اتفاقاً، وهي كلُّ حكمٍ وافق أدلة الكتاب والسنة، وبقية مصادر التشريع الإسلامي واستند إليها، فهو حكم صحيح مستند الى الشريعة الإسلامية ومثاله الأحكام الصادرة في قضايا الأحوال الشخصية المأخوذة من الفقه الإسلامي بشكل عام .
جاء في “بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع” : “قضاء القاضي الأول لا يخلو إمّا إنْ وقَعَ في فصلٍ فيه نصٌّ مفَسَّرٌ مِن الكتاب العزيز، والسنة المتواترة، والإجماع، وإما إنْ وَقَعَ في فصل مجتهَدٍ فيه مِن ظواهر النصوص والقياس.
فإنْ وقع في فصلٍ فيه نصٌّ مفسر مِن الكتاب، أو الخبر المتواتر، أو الإجماع، فإن وافق قضاؤه ذلك نفذ، ولا يحلُّ له النقضُ؛ لأنه وقع صحيحاً قطعاً، وإن خالف شيئاً مِن ذلك يرده؛ لأنه وقع باطلاً قطعاً).[بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (7/14)].
الحالة الثالثة:
وهي موضعُ خلافٍ بين الفقهاء، وهي إذا كان الحكمُ مبنياً على اجتهاد القاضي فيما يسوغ فيه الخلاف.
وحاصلُ الخلاف أنّ جمهور الفقهاء مِن المالكية والشافعية والحنابلة يرون أنّ القاضي إذا اجتهد فيما يُسّوغ فيه الاجتهاد فحَكم فيما هو الصّواب عنده، ثم تغيّر اجتهادُه أو تولى القضاءَ غيرُه ممّن يخالفه في اجتهاده فلا يُنقض الحكم الأول؛ لأنه لو فعل ذلك لجاز له نقض الثاني والثالث باجتهاد آخر، ولا يقف على حد، ولا تستقر الأحكام، ولا يثق أحد بقضائه.[انظر : الموسوعة الفقهية الكويتية (41/159)].
وممّا يدلّ لمذهب الجمهور ما ورد عن عمر بن الخطاب : أنّه قضى في المسألة المشرَّكة (وهي زوج وأم وإخوة للميت مِن أم، وإخوة أشقاء) فأشرك الإخوةَ مِن الأب والأم مع الإخوة مِن الأم في الثلث، فقال له رجلٌ: “قد قضيتَ في هذا عامَ الأول بغير هذا”، قال: “وكيف قضيتُ؟” قال: “جعلتَه للإخوة للأمّ، ولم تجعل للإخوة مِن الأب والأم شيئاً”، قال: “ذلك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي”. [أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/247 رقم31097)] ولم ينقض حكمَه السابق.
وقد فصَّل الإمام القرافي في هذا الموضوع فقال:
“ما حُكم به على خلاف السبب:
والقسمُ المتقدم على خلاف الدليل، وقد تقدم الفرق بين الأسباب، والأدلة والحِجاج، وأنّ القضاةَ يعتمدون الحِجاج، والمجتهدين يعتمدون الأدلة، وأن المكلفين يعتمدون الأسباب، فإذا قضى القاضي بالقتل على مَن لم يَقتُلْ، أو بالبيع على مَن لم يبِعْ، أو الطلاق على من لم يطلِّقْ، أو الدَّينِ على مَن لم يستدِنْ، فهذا قضاءٌ على خلاف الأسباب، فإذا اطلع على ذلك وجب نقضُه عند الكلِّ إلا قسماً منه خالف فيه أبو حنيفة ، وهو ما كان فيه عقدٌ وفَسخٌ، فيَجعل حكمَ الحاكم كالعقد فيما لا عقدَ فيه، أو كالفسخ فيما لا فسخ فيه…
وأمّا الديون وما يجري مجراها مما لا عقدَ فيه، ولا فسخ فيوافقنا فيه، وأنه باق على ما كان عليه قبل الحكم، وهذا هو معنى قول المالكية والشافعية والحنابلة: حكمُ الحاكم لا يُحلُّ حراماً، ولا يحرّم حلالاً في نفس الأمر، خلافاً لأبي حنيفة).[الفروق (4/41) ] .
وفصّل علماءُ الحنفية في نقض الحكم المبني على الاجتهاد مِن قاض آخر كما جاء في قول الكاساني: ” إنْ وقع القضاءُ في فصلٍّ مجتهَدٍ فيه فلا يخلو إمَّا إنْ كان مجمَعاً على كونه مجتَهَداً فيه، وإما إنْ كان مختلفاً في كونه مجتهَداً فيه، فإن كان ذلك مجمعاً على كونه محلّ الاجتهاد، فإما إنْ كان المجتهَدُ فيه هو المقضيَّ به، وإما إنْ كان نفسَ القضاء.
فإن كان المجتهَدُ فيه هو المقضيَّ به، فرُفع قضاؤه إلى قاضٍ آخر؛ لم يردَّه الثاني، بل يُنْفِذُه؛ لكونه قضاءً مجمعاً على صحته؛ لِما علم أنَّ الناس على اختلافهم في المسألة اتفقوا على أن للقاضي أن يقضيَ بأيِّ الأقوالِ الذي مال إليه اجتهاده، فكان قضاؤه مجمعاً على صحته.
فلو نقضه إنما ينقضه بقوله، وفي صحته اختلافٌ بين الناس فلا يجوز نقضُ ما صحّ بالاتفاق بقول مختلَفٍ في صحته.
ولأنه ليس مع الثاني دليلٌ قطعيٌ بل اجتهادي، وصحةُ قضاء القاضي الأول ثبتَ بدليلٍ قطعيٍّ، وهو إجماعهم على جواز القضاء بأيّ وجه اتضح له، فلا يجوز نقضُ ما مضى بدليل قاطع بما فيه شبهة.
ولأنّ الضرورة توجب القول بلزوم القضاء المبني على الاجتهاد، وأنْ لا يجوز نقضه؛ لأنه لو جاز نقضه يرفعه إلى قاض آخر يرى خلاف رأي الأول فينقضه، ثم يرفعه المدعي إلى قاض آخر يرى خلاف رأي القاضي الثاني فينقض نقضه، ويقضي كما قضى الأول، فيؤدي إلى أن لا تندفع الخصومة والمنازعة أبداً، والمنازعةُ سببُ الفساد، وما أدى إلى الفساد فسادٌ.
وإن كان نفسُ القضاء مجتهَداً فيه أنه يجوز أم لا كما لو قضى بالحجر على الحرِّ، أو قضى على الغائب؟ أنه يجوز للقاضي الثاني أن ينقض قضاء الأول إذا مال اجتهاده إلى خلاف اجتهاده الأول؛ لأن قضاءه هنا لم يجز بقول الكل، بل بقول البعض دون البعض فلم يكن جوازه متفَقاً عليه فكان محتملاً للنقض بمثله، بخلاف الفصل الأول؛ لأن جواز القضاء هناك ثبت بقول الكلِّ، فكان متفَقاً عليه فلا يحتمل النقض بقول البعض.
ولأن المسألة إذا كانت مختلَفاً فيها، فالقاضي بالقضاء يقطع أحد الاختلافين، ويجعله متفقاً عليه في الحكم بالقضاء المتفق على جوازه، وإذا كان نفسُ القضاء مختلفاً فيه يرفع الخلاف بالخلاف، هذا إذا كان القضاء في محلٍّ أجمعوا على كونه محلَّ الاجتهاد.
فأما إذا كان في محلٍ اختلفوا أنه محلُّ الاجتهاد أم لا، كبيع أم الولد هل ينفذ فيه قضاء القاضي أم لا؟
فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: ينفذ؛ لأنه محل الاجتهاد عندهما؛ لاختلاف الصّحابة في جواز بيعهما، وعند محمد: لا ينفذ؛ لوقوع الاتفاق بعد ذلك مِن الصحابة وغيرهم، على أنه لا يجوز بيعها، فخرج عن محلِّ الاجتهاد.
فكان هذا الفصلُ مختلَفاً في كونه مجتهَداً فيه، فينظر إن كان مِن رأي القاضي الثاني أنه يجتهد فيه، يُنْفِذُ قضاءَه، ولا يردّه؛ لما ذكرنا في سائر المجتهدات المتفق عليها، وإن كان مِن رأيه أنه خرج عن حدّ الاجتهاد، وصار متفقاً عليه، لا ينفذ، بل يردُّه؛ لأن عنده أنّ قضاء الأول وقع مخالفاً للإجماع؛ فكان باطلاً”.[بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (7/14-15)].
وهناك من فرّق بين الحكم المبني على الاجتهاد قبل تنفيذ الحكم فأجازوا نقضه، والحكم بعد التنفيذ فلم يجوّزوا نقضه.
حالات نقض الأحكام القضائية في القانون السوري:
أمّا بالنسبة إلى رأي القانون الوضعي، فقد شددت القوانين الوضعية على مسألة احترام الأحكام القضائية النهائية ولم تُجِزْ إبطالها أو نقضها إلاّ بأسباب محدودة وحالات ضيقة سمَّاها القانون السوري حالاتِ إعادة المحاكمة، ونصت عليها المادة (242) مِن قانون أصول المحاكمات السوري:
“يجوز للخصوم أن يطلبوا إعادة المحاكمة في الأحكام التي حازت قوة القضية عند تحقق إحدى الحالات التالية:
1- إذا وقع مِن الخصم غش كان مِن شأنه التأثير في الحكم.
2- إذا أقرّ الخصم بعد الحكم بتزوير الأوراق التي بني عليها الحكم.
3- إذا كان الحكم بني على شهادة شاهد قضي فيما بعد أنها كاذبة.
4- إذا حصل طالب الإعادة على أوراق أو مستندات كان خصمه قد حال دون تقديمها.
5- إذا قضى الحكم بشيء لم يطلبه الخصوم أو أكثر ممَّا طلبوه.
6- إذا كان منطوق الحكم يناقض بعضه بعضاً.
7- إذا صدر الحكم على شخص ناقص الأهلية أو لم يكن ممثلاً في الدعوى.
8- إذا صدر بذات النزاع وبين ذات الخصوم حكمان متناقضان”.
بعد هذا التطواف السّريع على حالات جواز نقض القرارات القضائية النهائية في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، وبالنظر إلى واقع بلدنا سورية أقول وبالله التوفيق:
إنّ الظروف التي يمر بها ليست اعتيادية ولا سليمة، وقد بات فيها الناس بين جائع أو خائف أو هارب، ومَن ظنّ أن أحكام الشرع التي تطبق زمان السلم والسّعة أو الأحوال الطبيعية هي ذاتها التي تطبق في النوازل والضيق والأحوال الاستثنائية فقد جهل بحقيقة الشريعة الإسلامية وقواعدها، ومما يدلّ على ذلك فعل الخليفة عمر بن الخطاب الذي عطّل تطبيق حد السّرقة عام الرمادة، وقال: “لا يُقْطَعُ في عَذْقٍ، ولا فِي عامِ سَنَةٍ” [أخرجه ابن أبي شبية في مصنفه (5/521 رقم28591)]؛ لأنه رأى عدم توافر شروط الحد من قيام الشبهة التي تمنع إقامة الحد.
وقد سُئل الإمام أحمد عن هذا الحديث فقال: “العَذقُ: النّخلة، وعام سَنة: المجاعة، فقيل له: تقول به؟ فقال: إي لعمري”. [ انظر: إعلام الموقعين (3/17)].
الواقع الحالي والمقترحات:
والمطّلع على الواقع داخل سورية تتكشف له الحقائق التالية:
أ- لقد حدث تلاعب وتزوير كبير وتحريف في أغلب المستندات التي يعتمد عليها الناس في إثبات ملكيتهم أو أحوالهم مِن سندات أو عقود أو شهادات ملكية أو شهادات علمية حتى أصبح مِن السهولة الحصول على ما تريد من المستندات.
ب- تغيَّر الوازع الديني وضعُف عند الكثير مِن الناس، وتجرؤوا على محارم الله، ولاسيما الدماء والأموال مما يوجب التوقف والتحري كثيراً عند مسألة الإثبات بالشهادة وشروطها وضوابطها.
ج- غادر أغلب الناس ديارهم وتركوها وأضاعوا كثيراً مما لديهم من أوراق ومستندات بأملاكها، وهذا يعطي الفرصة الكبيرة لضعاف النفوس أو ممن لديهم حبّ الانتقام من خصومهم لتقديم دعاوى كاذبة للاستيلاء على أموال ظلماً.
هذه الحقائق الثلاث معلومة للعاملين في مجال القانون كما أنه مِن المعلوم أيضاً أنّ مسألة الإثبات هي الركن الأساس الذي يقوم عليه الحكم، وإزاء هذا الوضع فإني أقترح ما يلي فيما ينبغي للقضاة أن يتبعوه في المناطق المحررة:
1- اقتصار عمل القاضي على ما يستجد مِن نوازل وخصومات وحوادث، والإمساك والتوقف عن النظر في القضايا التي سبق أن صدر فيها أحكام قضائية نهائية، وليس ذلك اعترافاً بصحة وسلامة هذه الأحكام، وإنما تطبيقاً لمبدأ سد الذرائع ودرء المفاسد المقدم على جلب المصالح.
فلو فتح القاضي هذا الباب لوجد نفسه أمام المئات والآلاف مِن الدعاوى، وما قد يصحب ذلك مِن مظالم للبعض وإثارة المشكلات مجدداً واضطراب حبل الأمن المضطرب أصلاً .
2- التوقف عن الفصل بأحكام نهائية في موضوع ملكية العقارات مِن أراضٍ ودور ومزارع ممَّا يعتبرها الناس أغلى وأنفس ما لديهم، وإذا ثار خلافٌ حولها فعلى القاضي أن ينظر في ظاهر الحال وظاهر المستندات أو الأحكام السابقة ويتحرّى مِن الجوار عن المالك ويصدر حكماً مؤقتاً، وليس نهائياً وأشدّد على ذلك بوضع الملكية بيد مَن يشهد له الواقع وظاهر المستندات إلى حين انجلاء الأزمة.
3- أن تكون أحكامُه في المسائل والقضايا التي تحتمل التأخير ولا تستدعي الحسم أحكاماً مؤقتة،كأن يضع حارساً على المال المتنازع عليه أو يسلّمه إلى شخص ثالث مؤتمن عليه يحرسه أو يُثمّره إلى حين معرفة صاحب الحق وظهوره .
4- أن يحذر القاضي مِن الخصومات الوهمية التي يتخاصم فيها اثنان ظاهراً على مال ليس ملكاً لأيّ منهما كأن يدّعي شخصٌ شراءه داراً أو مالاً من شخص ويمثل هذا الأخير ويقر بالبيع وأحياناً ينخدع بعض القضاة بذلك.
5- أن يتحرّى القاضي صحّةَ الأدلة وعدالة الشهود ما أمكن؛ لأن الكثير مِن الدعاوى ستكون مِن طرف واحد ينفرد بالخصومة ويقدّم ما يشاء من الأدلة ويحجب منها عن القاضي ما يشاء بسبب غياب الخصم الآخر.
هذا ما وفقني الله إليه مقرّاً بعجزي وتقصيري، وإنّما أردتُ نصح إخوتي القضاة من خلال خبرتي في هذا السلك لتبرأ ذمّتهم أمام الله فيما يصدرون مِن أحكام .
والله أعلم بالصواب ومن وراء القصد.