افتتاحية العدد الثالث
بقلم رئيس التحرير: أ. إبراهيم الحسون
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله العادل في حكمه، الكامل في صفاته، الرحيم بعباده الضعفاء، المنتقم من الطغاة والجبابرة، والصلاة والسلام على المبعوث إلى الخلق لنشر الحقّ، والأمر بالعدل، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فلا ريبَ أنّ العدلَ علامةٌ على صحّة المجتمعات، وسلامة الأمم، وطول عمرها، وتأهلها لسيادة مَن حولها، فمتى بدأتْ تغيبُ مظاهر العدل ليسود مكانَها الظلمُ أوشكت الدول والحضارات أن تتقهقر حتى تنهار وتزول ليحل عوضاً عنها مَن هو أعدل منها، وهذه سنّة كونيةٌ تنطبق على الأمم التي تدين بدين الإسلام أو غيره، لكن كمال العدل بلا شك لا يكون إلا تحت ظلال الشريعة السمحاء. والعدلُ شرط مِن شروط النصر والتمكين، ولا فرق في ذلك بين المسلم والكافر، وتحقيق هذا الشرط هو السبب في تميز المرء ورفعته عن أقرانه، وكذا الحال بالنسبة للدول، فإن العدل هو السبب في تقدمها وتفوقها وتميزها عن غيرها.
وقد مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- النجاشي قبل إسلامه، فعن أم سلمة هند بنت أبي أمية مرفوعاً: (إنَّ بأرض الحبشةِ ملِكًا لا يُظلَمُ أحدٌ عنده، فالْحقوا ببلادِه حتى يجعل اللهُ لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتُم فيه). [أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/16رقم 17734) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (7/577رفم 3190)].
وقد قامت ثورتنا في أرض الشام المباركة وكان الهدف الأول لها هو إقامة العدل، واستطاعت بفضل الله تعالى أن تُسقط أركانَ نظام الظلم والطغيان في أقلَّ مِن عام بأيسر الإمكانيات، رغم أنه كان في أوج قوته وسلطته، والسبب في ذلك أننا كنا نقاتله بالسلاح الذي لا يُهزم صاحبه وهو العدل إضافةً إلى الإيمان والتضحية والتخلي عن حظوظ النفس، واليوم نعيش مرحلةً تغيرت فيها الظروف والمعطيات، وخسرنا فيها كثيراً مِن مكتسبات الثورة التي تحققت بعد تقديم قوافل الشهداء، والتضحية بشلالات وأنهار الدماء، فيجب علينا أن نسأل أنفسنا:
لم حدث هذا؟ وكيف؟! وهل انحرفت بوصلة الثورة؟ وهل فقدنا السلاح الذي كنا نقاتل به عدونا؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: (أمورُ الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إنّ الله يقيم الدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس ذنبٌ أسرعَ عقوبةً مِن البغي وقطيعة الرحم) [أخرجه أبو داود (4/276رقم 4902)، والترمذي (4/245رقم 2511)، وابن ماجة (2/1408رقم 4211) بلفظ: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم)، وقال الألباني: صحيح].
فالباغي يُصرع في الدنيا، وإن كان مغفورًا له مرحومًا في الآخرة، وذلك أنّ العدلَ نظامُ كلِّ شيء، فإذا أُقيم أمرُ الدنيا بعدلٍ قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة مِن خلاق، ومتى لم تُقم بعدل لم تَقم، وإن كان لصاحبها مِن الإيمان ما يُجزى به في الآخرة). [مجموع الفتاوى (28/146)].
ورضي الله عن عمر، فإنه كان يقول: «لو عثرت بغلةٌ بالعراق (على أطراف الدولة الإسلامية يومئذ) لسألني الله عنها يوم القيامة: لِمَ لَمْ تُصلح لها الطريق يا عمر!!».
فهل إلى هذا الحد سيكون السؤال يوم القيامة؟! حتى عن الحيوانات! فكيف بمئات الآلاف أو الملايين من الناس الذين وقع عليهم الظلم؟!
وكلُّ ما ذكرناه يكون في الدول المستقرة التي تمكّن فيها السلطانُ، وأمسك بزمام الحكم في ربوعها، فكيف بالأرض غير المستقرة التي ليس فيها سلطان ولا إمام فإن ذلك يزيدها وهناً.
وهنا نطرح الأسئلة الآتية، والتي لا مناص مِن الإجابة عنها:
هل ظلمنا ثورتَنا عندما حمّلناها شعاراتٍ وأهدافاً لا يطيقها شعبُنا ولم يقم بثورته مِن أجلها؟
هل ظلمنا ثورتَنا عندما تفرّقنا وتنازعنا وأرقنا دماء الثوار تحت حراب هذه النزاعات؟
هل ظلمنا ثورتنا عندما ولّينا أمورَ الناس لغير الأكفاء في المحاكم والمكاتب الأمنية والشؤون السياسة والمدنية؟
لا بدّ من ردِّ هذه المظالم العامة فضلاً عن المظالم الفردية التي تعرّض لها أبناء شعبنا حتى يعود لنا سيفُ العدل، وترفع راية النصر، فضلاً عن تأييد الله لنا؛ لأنه تعالى يقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: ١١٧]، ولا بدّ من المبادرة قبل أن يتعذر التدارك، ولات ساعةَ مندم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.